١٦١٩١٩

العطور كما لم تعرفها من قبل

متابعة: حنين الحموي

العطر هو اختيار شخصي للغاية ولاشك بأن كل شخص يتميز برائحة عطر خاصة به، فالعطر بمثابة بصمة أو هوية وليست مجرد رائحة جميلة وعطرة فقط، وكثيرٌ منا يميز الشخص من رائحة عطره ويتذكره بها عند استنشاقها، كما أننا نتذكر مكان محدد من رائحة مرتبطة به أو موقف معين أو حتى ذكرة خاصة.

١٦١٩١٩

فقد عرف الانسان البدائي العطور من استنشاقه للورد فكان يقطف الورد ويحرقه فيخرج منه الروائح العطرة وكان ذلك غالباً مخصص للأغراض الدينية لا للزينة، أما العطور الحيوانية فكان أول عطر في الكون (هو حين خرج النبي يونس من بطن الحوت برائحة ذكية كان مصدرها العنبر الذي تنتجه معدة الحوت الأزرق عندما تصاب بخلل فيقذف الحوت ما في معدته خارجاً ويعد عنبر الحوت الأزرق من أغلى أنواع العطور في العالم).
كما استخدمت العطور منذ أقدم العصور حيث ارتبطت ببعض مظاهر الحياه اليومية وطقوس العبادة والمراسم الجنائزية لدى الكثير من الشعوب ومن حسن الحظ قد وصلنا الكثير من النقوش الأثرية التي نستطيع من خلالها التعرف إلى الطريقة التي كانت تتم بها صناعة العطور والمناسبات المختلفة التي كانت تستخدم فيها العطور.

١٦٢٠٠٢

حيث سيطر العرب على تجارة العطور والتوابل بين الشرق والغرب لمدة قرون فجلبوا المسك من الصين والقرنفل من زانجيبار وخشب الصندل من الهند وباعوها إلى الغرب، كما اشتهرت الجزيرة العربية بإنتاج العطور المستخلصة من النبات والحيوان وهي نادرة ويمكننا تصنيف العطور العربية إلى ثلاث مجموعات:
1- عطور نباتية: وهي أجود أنواع العطور وأطيبها رائحة وهي التي تشتهر بها دمشق، كالورد وهي رائحة معتدلة وزهرية إلى حد كبير، حلوة ومائلة قليلاً لرائحة التوابل أو العسل وذات تأثير ملطف، يرمز الورد إلى الكمال والرومانس، والقرنفل وهي رائحة قوية وتوابلية وعند التمديد تبدو قوية فهي رائحة مثيرة ولطيفة في آن واحد، بالإضافة إلى النرجس فهو عطر عذب وغريب بعض الشيء، وأيضاً اللوتس، والياسمين وغيرها.
2- عطور حيوانية: كالعنبر الأصلي الذي يستخرج من كبد الحوت وهو نادر جداً وغالي الثمن والمسك الذي يستخرج من الغزال بدرجات متفاوتة.
3- العطور التركيبية أو الصناعية: وهي الرائجة بالأسواق لأنها رخيصة الثمن، وقد رمز الطيب أو العطر لدى العرب بالتصافي والتصالح حيث ذكر أنه عندما اجتمع بنو هاشم وبنو الزهرة في دار ابن جدعان لتصفية خلافاتهم والاتفاق على مناصرة بعضهم البعض غمسوا أيديهم في وعاء به طيب وحلفوا يمينهم على ذلك ولذلك أطلق عليهم لقب المتطيبين.

وكان المسلمين أول من استخدم تاج الزهرة لاستخراج ماء الزهر منذ1300عام ولم يستخدم المسلمين تاج الأزهار كعطر فقط بل استخدموه كدواء ولعل أقدم أنواع العطور في العالم هو عطر الورد وقد كان رائجاً جداً لدى القبائل العربية،
فمن أهم العلماء المسلمين وأبرزهم في تصنيع العطور “ابن سينا”، “الكندي” الذي وضع كتاب (كيمياء العطور).

فقد تعتمد مهنة تركيب العطور بشكل أساسي على الزيوت العطرية “الأصانص”، والكحول المثبتة، والفوارغ الزجاجية مختلفة الأحجام والأشكال، فهي عملية خلط المواد المركزة مع المواد الموجودة حيث تصبح قابلة للاستخدام الشخصي بعد انخفاض تركيزها عن المادة الأساسية (أصانص العطر)، وتتم هذه العملية في خلاط للسماح للمادة المذيبة بالتفاعل مع العطر الأساسي، وفي النهاية يتم تعبئتها في عبوات زجاجية، فهي توصف بأنها من مهن “السهل الممتنع”، فالمعايير قد تبدو سهلة، وتركيبها غير معقد، لكن ما يميز واحدة عن أخرى جودة المادة الخام، إضافة إلى اعتقاد البعض أن زيادة وزن المادة يزيد من جودة المنتج وهذا غير صحيح.
حيث يستمتع بائع العطور بتركيبها التي تتسم بالتناغم الناعم النابض بالحياة والرقي والتوازن والدقة، كما يستمتع الزبون باكتشاف وارتداء هذا المزيج المتناغم، فإن لمسة أساسية من رائحة العطر تزيد من هذا التأثير وتغمرك بقوة غامضة وبخاصة العطور ذات الجاذبية الحقيقية فهناك عطوراً تذهل بقوتها وتجذب الزبائن عن بعد، في محاولة لاكتشاف أعماقها المخبأة.

وغالباً ما تكون هذه الزيوت المستخدمة لأغراض دينية في أنقى صورها، فهذا العطر “العطار الكعبة” من مؤسسة الحرمين مستوحى من الكعبة المشرفة حيث كانت الزيوت الممسوحة تستخدم أيضا لأغراض طبية وشفاء، أي كانت منحى الإله بدلاً من الشفاء الطبيعي، ويذكر العطر في العديد من النصوص الدينية، وهذه تساعدنا على تقدير الدلالات الدينية المحددة لبعض تلك العطور، ويصف بها قائمة من 16 بنود للزينة من كل امرأة، وتشمل هذه العجينة ومعجون الصندل كما يستخدم البخور أيضاً حتى اليوم أثناء العبادة، وأيضاً لإضافة رائحة ممتعة داخل المنازل، ويستخدم أيضاً نبات “لوبان” وهو شجرة تستخدم رائحتها أثناء الصلاة في المساجد، وفي جميع أنحاء العالم كان المسلمون يحملون حصيرة الصلاة مع عصا اللبان فهي عبارة عن عصا حرق عطرة ذات الحشرات والبعوض.
أما في الكتاب المقدس فقد تم ذكر المواد العطرة والعطرية في عدة أماكن، وقد استخدم البخور الحلو على “مذبح البخور” اليهودي، وكان مصنوعاً من مواد مثل ستاكت، أونيتشا، غالبانوم واللبان النقي وكان هذا للاستخدام المقدس فقط وليس للاستخدام الشخصي.

كما أنا للعطور أهمية على النفسية والصحة الذهنية فقد ترتبط حاسة الشمّ بجزء من الدماغ يسمى “الجهاز الحوفي” وهذا النظام مسؤول عن الذكريات والعواطف بحيث أنه يكتشف ويمرر المعلومات إلى الدماغ، ويتحكم في إطلاق بعض الهرمونات ويتم نقل الهرمونات إلى أعضاء وأنسجة الجسم لممارسة وظائفها ما يؤثر على الوظيفة الإدراكية والمزاجية، بالإضافة إلى الوظيفة الجنسية والصحة الإنجابية والنمو.

فبعد استخدام حاسّة الشمّ لأول مرة يتذكر الدماغ العطر في المرة التالية التي يشمّ فيها الرائحة ويستعيد بالتالي الاستجابة للحافز أيضاً، وبسبب هذا الأمر، قد تستعيدون نفس المشاعر عندما تشمّون رائحة العطر مرة أخرى ويمكن أن تستدعي العطور ردود فعل عاطفية قوية تؤثر بدورها على نفسيتكم، فمنها ما يبعث السعادة في النفسية وأنواع أخرى تسبب الإكتئاب والحزن ذلك بسبب الاختلافات في الارتباطات العاطفية.

وتميل العطور مثل الخزامى والبابونج والياسمين إلى تعزيز الاسترخاء التي تساعد على تخفيف التوتر والقلق في حين أن العطور القوية بما في ذلك البرتقال والليمون والمانجو يمكن أن تساعد في تقوية التركيز، ورائحة الياسمين التي تعمل على زيادة النشاط، وتؤدي هذه الروائح الغرض من خلال بث مجموعةٍ من الموجات داخل الدماغ بعد التعرّف عليها، والتي تؤثر على المشاعر والعاطفة بشكلٍ خاص، فمن الطرق الأولى لعمل الرائحة هي المشاعر التي تثيرها، وهذا يثير فينا إحساساً إيجابياً بالمتعة، وأحياناً ممكن أن يثير فينا إحساساً سلبياً، وهذا لا يؤدي فقط إلى سلوك معين وتعابير معينة في الوجه تدل على الفرحة أو الاشمئزاز، ولكن أيضاً سلسلة من ردود الأفعال للجسم مثل تغيير معدل التنفس أو معدل ضربات القلب أو الشعور بالتوتر العضلي، وقد تم اكتشاف أن بعض أعضاء الجسم مثل القلب والمبايض لها مستقبلات قادرة على الاستجابة لجزيئات الرائحة، ونعرف أيضاً أن بعض الروائح قد تحفز ردود أفعال عاطفية قد تؤدي إلى زيادة تحرير بعض الوسائط الدماغية مثل السيروتونين، مما يثير المزاج الإيجابي والشعور بالراحة.

وقد قامت بعض الدراسات بتقييم بعض الزيوت العطرية وتأثيرها على النوم، وقد تمّت الدراسات بشكلٍ خاص على زيت اللافندر، وذلك بسبب شهرته الكبيرة في المُساعدة على الاسترخاء، إذ إنّه يساعد على التأثير في نوعيّة النوم، كذلك وقد يعمل على التأثير على مدّة النوم من خلال زيادته والتقليل من التوتر الذي يؤثر عليه.

بالإضافة إلى أن العطور قد تؤثر على السلوك فعلم تأثير العطور على السلوك الإنساني هو علم الظواهر المرتبطة بالروائح التي تؤثر على السلوك وفي الواقع أظهرت العديد من الدراسات العلمية أن للروائح آثار نفسية ولكن أيضا فسيولوجية حيث تعمل على نوعية النوم والشدة بل وحتى الدهون المترسبة تحت الجلد.

وقد أظهرت الأبحاث التي أجرتها جامعة Brown University أيضا ًوجود صلة بين العطور والحالات العقلية مثل الأرق، والإجهاد، والتركيز، وقد أثبتت التجارب السريرية في جامعة Maryland أن روائح الورد والخزامى والفانيليا وحتى القهوة يمكن أن تساعد في الحدّ من التوتر والأرق، ويمكن أيضاً أن يتم تحسين التركيز من خلال الروائح الكافورية والعطرية مثل النعناع والكافور والفراولة والخزامى، والتي لها تأثير جعل الدماغ أكثر يقظة، وبسبب هذا الاعتقاد يقوم بعض المنتجين اليابانيين برش هذه الروائح في مصانعهم من أجل تحسين الإنتاجية وتقليل الهدر من خلال الأخطاء المرتبطة بالتركيز.

١٦١٩٤٤

كما أن هناك مايعرف “العلاج بالعطور” وهو فن العلاج عن طريق استخدام الزيوت الأساسية التي يتم استخدامها لعلاج العديد من الأعراض سواء التنفسية أو الهضمية أو النفسية أو الالتهابات، فيمكن اعتبار العطور كدواء وقائي لأنه ينظم ويحافظ على التوازن النفسي والبدني.

هكذا رافقت العطور الإنسان منذ بداياته في أفراحه وأحزانه ودخلت بأساليب حياته وعبادته فكانت أسلوباً من أساليب التعبير عما يدور بخياله وتركت بصمة له في كل حضارة من الحضارات عكست صورة عن ذوقه وأناقته وإحساسه المرهف نستطيع رؤيتها والوصول لها عن طريق متابعة تطوره الحضاري وفهمه.

شاهد أيضاً: كتلة هوائية شديدة الحرارة تؤثر في الرياض هذا الأسبوع.. تقترب من الـ 50 مئوية

أخبار ذات صلة